2015-01-19 الساعة 05:22م
من سمات أي مجتمع مدني مُتحضّر المحافظة على مبادىء الديمقراطية والعدالة والمساواة، بالإضافة إلى حرية الاعتقاد والحرية الفكريّة، وأن يكفل حرية التعبير لكافة أفراد المجتمع، وهو ما يعني احترام الاختلاف الفكري بين أطياف المجتمع المتعددة، سواء كان هذا الاختلاف في كيفية إدارة الشؤون السياسية أو في إدارة شؤون المجتمع أو كان اختلافاً على المستوى الفكري والثقافي.
ويُقاس النجاح الحضاري لأي دولة في مدى نجاحها بأن تكفل حرية التعبير لأفراد المجتمع بغض النظر عن الحزب الحاكم واتفاقه أو اختلافه مع معتقدات الأفراد والهيئات والمؤسسات أو الأحزاب الأخرى. باختصار إن حرية التعبير تعني ضمان حرية الفرد في البوح بكل ما يدور في ذهنه من أفكار دون أن يخشى العقاب أو الانتقام، وهذا يتطلب بالضرورة عدم استخدام السلطة وسيلةً لفرض وجهة نظر معينة، أو توجيه المجتمع نحو تبني آراء ووجهة نظر السلطة، وكلّما ابتعدت الدولة عن حكم الحزب الواحد والصوت الواحد والجريدة الواحدة كانت أقرب إلى تطبيق مبادىء التعددية الفكرية وحرية التعبير.
لكن تطبيق حرية التعبير دون ضوابط أو محدّدات أخلاقية، يعني خروج المجتمع أو الدولة من حدود التحضّر إلى العبثية الفكرية غير المُمنهجة أو ما يشبه شريعة الغاب.
ضبط حرية التعبير وحَصْرِها في المَقْصد الأساسي لها وهو بناء مجتمع حضاري راق يضمن عدم استبداد جهة ما وفرض رؤيتها على بقية الأفراد أو استئثارها بالحق والصواب وتجريم الآخرين أو تكفيرهم، هو الاختبار الحقيقي لتَحضّر المجتمع من عدمه.
وبالنظر إلى تطور مفاهيم المجتمع المدني عبر التاريخ نجد أن البداية كانت مع نشوء الفلسفة الفكرية المتمثلة بمبادىء أرسطو وسقراط حول حقوق الإنسان، وتجلّت هذه المفاهيم في «المدينة الفاضلة» لأفلاطون، وأدّى تنامي وإزدهار هذه الأفكار إلى دخولها في صراع مع الكهنوت الديني للكنيسة فتسبب بقيام ما سُمّي بالثورة الفكرية التي شنّها المفكرون الغربيون مثل هيغل وفولتير وجان جاك روسو ضد ما أسموه «الجهل المُقدّس». ونجحت هذه الثورة في النهاية بتحطيم المعتقدات القديمة السائدة في المجتمع، وقيّام مجتمعات تؤمن بحرية الاختيار والتعدّدية الفكرية. وكانت ثمرة هذا الانتصار هو إعلان الميثاق الفرنسي لمبادىء حقوق الانسان، الذي ضَمِنَ حرية التعبير لكافة أفراد المجتمع، إلا أن ظهور الماسونية، والشيوعية والفكر الإلحادي أدى إلى اختلال الموازين والمفاهيم فيما يتعلق بالحرية المُطلقة للاعتقاد، وتعظيم الحرية الفكريّة للأفراد، التي استغلت مبدأ حرية التعبير في تحطيم كل ما هو مُقدّس بما في ذلك تدنيس الأديان ومُعتقدات الآخرين.
ويبدو جليّاً أن فئة مُدّعي الحضارة والثقافة لا تقتصر على العالم الغربي، فما يشهده العالم العربي من أحداث يدل على تورط مجتمعاتنا في الورطة الفكرية نفسها سواء من حيث استخدام الماكينة الإعلامية لترسيخ التطبيق الخاطىء لمبادىء الحرية، أو استغلال بعض الناشطين لشعارات الحرية الرنّانة في سبيل الانتقاص من معتقدات الآخرين وتجريمهم وازدرائهم.
ولقد انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة استخدام التعرّي وسيلةً للاحتجاج على قضية ما، أو لدعْم حرية المرأة وحقّها في نَيْل العدالة والمساواة في المجتمع، ناهيك عن عبادة الشيطان والمثلية الجنسية، وهو ما يُشير بوضوح إلى فهمٍ خاطىء ومعكوس لمبادىْ حرية التعبير، وهذا ينطبق أيضاً على كل من يدعم ويؤيد حرية التعبير من هذا المنظور.
لقد اقترنت حرية التعبير على مر العصور بالتشريف والرُقيّ الحضاري فكلّما كان الفرد قادراً على البَوْح بأفكاره ومعتقداته الداخلية دون خوف أو قلق ارتقى بالمفهوم الحضاري. وفي المقابل فإن تكبيل الفرد وتقييد حريته في البَوْح بمعتقداته هو انتقاص من قَدْر هذا الفرد، وعندما يتم استغلال حرية التعبير للبَوْح بـ «قِلّة الدين» أو «قِلّة الشَرَفْ» فهذا لا يعني سوى استغلال هذا المبدأ للحَطْ من قَدْر البشر بدلاً من رفع قَدْرهم.
ما شهدته باريس مؤخراً من دعم عالمي لحق الإعلاميين والصحافيين في السُخرية من الأديان والأنبياء دون حرج أو أدنى شعور بالخطيئة لهو أكبر دليل على التطرف الذي وصل له العالم في تطبيق مبادىء الحرية على عكس المراد لها ولا يتماشى أبداً مع الرُقي الحضاري الذي يسعى له الإنسان، ولا يمكن تصنيف هذا العمل إلا ضمن الإنحلال الأخلاقي وكل من يدعم حرية التعبير هذه يجب تصنيفه على أنه «متطرّف فكرياً».
إنْ كنا جميعاً نتفق على محاربة التطرف الديني واستخدام العنف وسيلةً للتعبير فعلينا أيضاً أن نُحارب التطرّف اليساري في تدنيس الأديان وازدراء الآخرين بناء على معتقداتهم الدينية.
عندما يخشى أحدُنا من التعرّض للمشروع الصهيوني وجرائم إسرائيل خوفاً من إلصاق تهمة مُعاداة الساميّة به، وعندما يتم اعتقال وقتل وتعذيب مئات الألوف ضمن قوانين مكافحة الإرهاب، وعندما يتم تكميم الأفواه بحجّة مساندة الإرهاب، وفي الوقت نفسه يتم حشد ملايين الناس حول العالم لدعم حرية التعبير «المُشوّهة»، والذي لا يعدو كونها سوى شكل من أشكال الإرهاب الفكري فهذا يعني أننا نعيش في عصر «الجهل المقدّس» بمفهوم جديد، وأننا بحاجة إلى ثورة فكرية مضادة ينتج عنها ميثاق جديد لحقوق الإنسان.
أيمن أبو لبن