
على غير عادتها، تفيق نجلاء قاسم في الصباح الباكر في المكان الذي تعيش فيه مع طالبات أخريات لتحزم حقيبتها وتبدأ مشوارها إلى جامعة تعز سيراً على الأقدام.
تتحدث نجلاء للمصدر أونلاين عن معاناتها قائلةً: "كنت أطلع الباص من السكن في شارع الثلاثين إلى جامعة تعز بمائة ريال، الآن أصبح المشوار الواحد ثلاثة مشاوير والسعر ضعف الأول".
وتضيف نجلاء القول "الأسعار ارتفعت بشكلٍ جنوني مؤخراً، وكيف لي أن أسد جميع احتياجاتي، وإذا أكثرت من المطالب للأسرة أعتقد بأن مصيري سيكون كمصير الكثير من الفتيات أمثالي، دراستي وحياتي أصبحت كلها معاناة وهمي الوحيد أن أكمل الدراسة".
ليست نجلاء الوحيدة ممن تواجه الظروف المعيشية الصعبة بالنسبة لها كطالبة جامعية، فهناك المئات من القصص المشابهة للعزيمة والإصرار التي تتمتع به الفتاة الريفية في سبيل إكمال مشوارها الجامعي، وهو المشروع الذي تتحمل بسببه الصعاب والعقبات العديدة".
وتفتح جامعة تعز أبوابها لتستقبل عاماً دراسياً جديداً، يتدفق إليها الآلاف من مختلف مديريات المحافظة، ومن خلفهم معاناة متفاقمة وطموحات متعثرة تمثل انعكاساً مباشراً للمستوى المعيشي للمواطنين، خاصةً أولئك الذين يأتون من أرياف المدينة، إذ تتضاعف معاناتهم مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية والمواصلات العامة.
تدهور العملة يفاقم المعاناة
في حديثه للمصدر أونلاين يشكو "عبدالله الصبري" المعاناة التي يعيشها، ويقول إنه بسبب هبوط سعر العملة أصبحت الصرفة (المصروف اليومي) التي أحصل عليها من والدي لا تكفيني حتى للمواصلات من السكن إلى الجامعة، فما بالكم بالإيجار والأكل والشراب والمستلزمات الجامعية.
ويضيف قائلاً "صحيح أن الشعب بأكمله أصبح يعاني سواء أبناء المدن أو القرى، لكن هناك فرق شاسع بين أن تكون طالب ريفي أو طالب من المدينة، أقل شيء أنهم يتناولون الوجبات الغذائية بدون معاناة، أما نحن وخاصة الفترة الأخيرة نلجأ إلى اختصار الثلاث الوجبات إلى وجبتين، إما أن ننام بدون عشاء أو أن نذهب إلى الجامعة بدون فطور".
ومع تدهور قيمة العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية ارتفعت أسعار المواد الغذائية بما يزيد عن الضعف، ووفقاً لإحصائيات للبنك الدولي فإن الريال اليمني خلال السبع السنوات الأخيرة فقد ما يزيد عن 500% من قيمته قبل اندلاع الحرب في البلاد، وهو ما انعكس سلباً على أسعار المواد الغذائية.
ويتابع "عبدالله" بنبرة يعتصرها الحزن والألم "كنت اشتري عشرة أقراص رغيف بمائتي ريال واليوم أصبحت بخمسمائة ريال، حتى الماء ارتفع سعره، وبقية المواد الغذائية أسعارها تتغير كل ليلة، مع أننا لا نعرف منها سوى علبة الزبادي، لأن ميزانية صرفتي الشهرية محدودة من الأسرة ودخلنا يعتمد على الأرض والفلاحة".
العمل مع مواصلة التعليم
في ظل الأوضاع الصعبة التي يعيشها الطلاب من أبناء المناطق الريفية، يلجأ البعض منهم إلى العديد من البدائل التي يرون بأنها تخفف عنهم حجم الضغط المادي، فيعزمون على مواصلة الدراسة، والبحث عن عمل إلى جانبها، لجني مبلغ بسيط يغطي جزء من نفقاتهم الدراسية، وهذا يؤدي إلى تشتت أوقاتهم بين العمل والدراسة، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض مستوى تحصيلهم العلمي.
"بليغ عبدالواسع" طالب في كلية الآداب وهو واحد من الطلاب المتفوقين علمياً، إلا أن الظروف المعيشية الصعبة أجبرته للانتظار مع كثير من الشباب في حراج العمال في منطقة بئر باشا لعله يجد عملاً يجني منه ولو القليل من المال ليساعده في سد حاجاته الأساسية.
يقول بليغ للمصدر أونلاين "خلال الفترة الحالية أصبحت مضطراً لأتغيب عن بعض المحاضرات الجامعية، وأنا اتكفل بنفسي وبدون مساعدة أحد، فحال الأسرة غير مؤهل لتحمل صرفتي".
ويضيف "حالياً أعمل في حراج العمال كمساعد لبناء أو لحمل مواد البناء والصبيات، والعمل شاق جدا، لكن ذلك لن يعفيني من مواصلة الكفاح وتحقيق أمنيتي في نيل الشهادة الجامعية".
وتشير تقارير للأمم المتحدة إلى أن هناك ما يزيد عن 20% من طلاب الجامعات اليمنية باتوا غير قادرين على الحضور إلى القاعات الدراسية، فضلاً عن عزوف الكثير من خريجي الثانوية العامة عن الالتحاق بالتعليم العالي نتيجة للظروف المعيشية الصعبة التي يمر بها اليمنيين في بلد يصنف بأنه يعيش في أسوأ كارثة إنسانية في العالم.
ونظرة الحسرة تكاد تخفي ملامح وجهه يتابع بليغ للمصدر أونلاين "لا أريد أن أتوقف عن الدراسة كما فعل شقيقي الذي يعمل حالياً حمال مواد غذائية في أحد المخازن، أكثر ما يزيد من الإحباط لدي رغبتي في الاطلاع والقراءة والمتابعة الدراسية".
ويتابع الحديث "كلما فكرت بكل ما يرتبط بالدراسة أشعر بأن شيء ما يخنقني، الوقت ضيق جداً ومعظم وقتي يمضي في الوقوف والبحث عن عمل أو في العمل".
وقف التعليم والالتحاق بجبهات القتال
مع استمرار المعاناة يلجأ بعض الطلاب من أبناء الريف إلى قرارات أكثر صعوبة ومرارة وهي التوقف كليًا عن الدراسة وإيقاف القيد الدراسي حتى يتسنى لهم البحث عن عمل لمساعدة أسرهم، إذا أن كثير من الأسر مع ارتفاع الأسعار والغلاء المعيشي، أصبحت لا تستطيع توفير نفقات الأسرة الضرورية، فما بالك بنفقات الدراسة.
ونتيجة لقلة فرص العمل في أرض الوطن بسبب الأوضاع الجارية، يضطر كثير من الشباب إلى الالتحاق بجبهات القتال، خاصة في مناطق الساحل الغربي والحد الجنوبي للملكة العربية السعودية نتيجة للإغراءات المادية في تلك الجبهات.
"وهيب هزاع" أحد الشباب الذين تركوا الدراسة في جامعة تعز وذهب مع مجموعة من أصدقائه إلى الحد الجنوبي، لكن آماله تبددت فور وصوله نتيجة لإصابته.
يتحدث "وهيب" للمصدر أونلاين وهو متكئ على فراشه الذي بات ملازم له فيقول: "ارتفعت الأسعار وضاقت عليّ العيشة خاصةً أن قسم الهندسة يتطلب مستلزمات كثيرة، قلت في نفسي أوقف قيد لعام واحد فقط وأذهب كما يفعل البقية إلى الحدود وأعود فور استلامي لمرتبين على الأقل لأسد حاجاتي الدراسية كالسكن والمصاريف وأخفف على والدتي في القرية".
ويواصل "وهيب" رواية قصته "شاءت الأقدار أن أصاب إصابة في الظهر، وبعد معاناة كبيرة استطاع بعض الأصدقاء أن يأخذوا ترخيص لترحيلي وخرجت إلى مأرب، وكان أخي في استقبالي وعدنا إلى تعز تحديدا إلى القرية في صبر والآن أصبحت مجرد عالة على أمي لأنني يتيم الأب".
ويضيف "وهيب" "أوجاعي تتضاعف كلما فكرت بأنني خسرت دراستي من جهة، ولم استطع أن أعول نفسي كما فكرت من جهة أخرى، لكن السبب الأول في معاناتي هي الظروف الصعبة ارتفاع الأسعار وأنا من قرية ما كان عندي سكن أو أهل في المدينة، فكانت الصرفة تتضاعف كلما زاد سعر الصرف".
بات الوضع الاقتصادي المأساوي يدفن أحلام الطلاب الريفيين قبل ولادتها، فكم من طالب متفوق اضطر لقطع تعليمه والبحث عن عمل، فمنهم من لا يكمل الثانوية، ومنهم من يكملها ولا يدخل الجامعة، ومنهم من درس سنة، ومنهم سنتين في الجامعة، ثم يتوقف ويذهب للبحث عن عمل ومساعدة أبيه في إعالة أسرته.
ويبدو أن أوجاع ومعاناة الطلاب من أبناء المناطق الريفية وأقرانهم من الطلاب لن تنتهي إلا بعد معالجات اقتصادية وتحسن للأوضاع المعيشية في البلاد، وهو أمر مرتبط بتوقف الحرب بدرجة رئيسية.