وهي تكرر للمرة الثالثة منذ بداية السنة، نفي أي خطط لفك ارتباط عملاتها بـ الدولار الأمريكي، وتؤكد أن لا نيّة أو فائدة أو حاجة لتخفيض أسعار هذه العملات مقابل الدولار، رفعت البنوك المركزية في عدد من الدول الخليجية إجراءاتها الضبطية والعقابية للمضاربين على عملاتها، من بنوك وصناديق تحوّط.
وتتمثل تلك المضاربات ببناء مراكز آجلة على بعض العملات الخليجية على أمل هبوطها، أو تحصيل ودائع بها بأسعار شراء عالية عن المعتاد في السوق والتي تحددها البنوك المركزية (السايبور في السعودية وآلاي بور في الإمارات) وتحويلها لاحقاً إلى ودائع بالدولار، في نطاق المراهنة على انخفاض هذه العملات الخليجية مقابل الدولار.
مضاربة على العملات
إجراءات ضبط المضاربة على العملات في دول مجلس التعاون، أخذت مداها في التصاعد منذ بداية السنة، بعد أن وصلت مضاربات العقود الآجلة على الريال السعودي أعلى مستوياتها خلال 13 عاماً. وفي الكويت جاءت الإجراءات لمنع أي تفاقم في قيام فروع البنك الأجنبية بنقل الدولار لمكاتبها الرئيسية. وفي الإمارات أظهرت أرقام بنك أبوظبي الوطني أن حجم الاتجار بالعملة عموماً خلال الربع الأول من العام الحالي بلغ 46 بليون دولار مقابل 38 بليون دولار في الربع الرابع من العام الماضي.
يشار إلى أن خمس من الدول الخليجية تربط عملاتها بالدولار الأمريكي منذ عقود، فيما ظلت الكويت تربط عملاتها بسلّة من العملات للدول التي تتاجر معها بشكل رئيسي، حيث يشكل الدولار في هذه السلّة السرية نسبة عالية راجحة.
وطول العقود الماضية كانت هناك قناعة بجدوى الربط بين العملات الخليجية والدولار ، باعتبارها صيغة توفر استقراراً في التوقعات تحققه أسعار الصرف الثابتة. هذا فضلا عن الجانب السياسي والمعنوي الذي يمثله الربط..
وزاد في جدوى ربط العملات أن النفط يسعرّ عالمياً بالدولار، وأن الدورة الاقتصادية في الخليج وفي الولايات المتحدة تتحاكى الى حدّ ما وتتشابك باستثمارات في السندات وغيرها ، بما يجعل ربط العملات أكثر جدوى وفعالية وبدون كلفة.
كلفة المجازفة
لكن مع تراجع اسعار النفط والعوائد والمداخيل، ابتداء من منتصف 2014، وبتراكم يزيد عن 40%، وبدء الدول الخليجية بالاقتراض من الأسواق المحلية والدولية لإدامة تنفيذ الخطط ومعدلات النمو، والوفاء بالالتزامات المالية والاجتماعية، فقد تنامى الحديث عن مدى جدوى الاستمرار في ربط العملات الخليجية بالدولار الذي بدأ دورة جديدة في الارتفاع يتوقع لها ان تطول.
موضوع الاستمرار بربط العملات تحوّل الى استقصاء لحجم الكلفة التي تدفعها الدول الخليجية ، للاستمرار في معادلات مالية ونقدية واقتصادية ، ومعها اعتبارات سياسية ومعنوية ، أضحت ثقيلة وتحتاج الى مراجعة للتأكد من صواب أي قرار مفترض ،وهي مراجعات تحتاج الى حرفة عالية جدا يرى خالد الخاطر ، ممثل قطر السابق في اللجنة الفنية للوحدة النقدية بمجلس التعاون الخليجي ، انها غير مجرّبة خليجيا أو أنها تتضمن مجازفة في اطلاق موجة من التضخم ، على نحو لا تريد بعض البنوك المركزية أن تتحمل مسؤوليتها.
أصحاب دعاوي فك الارتباط يرون الأمور من زاوية أن ارتفاع العجز المالي والتجاري، والضغوط المنظورة على احتياطيات العملات الأجنبية التي يشكل فيها الدولار أكثر من 70%، من شأنها جميعها أن تسمح باعادة مناقشة جدوى استمرار الربط مع الدولار، وصولاً الى تعويم العملات الخليجية والسماح لها بالانخفاض.
سرعات اقتصادية متفاوتة
ويعزّز بعض ذوي الاختصاص دعاويهم لفك الارتباط ،بأن الدورات الاقتصادية في الخليج وأمريكا أصبحت تسير باتجاهات مختلفة، ولم تعد كما كانت طوال العقود الثلاث الماضية . فالاقتصاد الأمريكي يعطي مؤشرات قوة ،في وقت يتراجع فيه أداء بعض الدول النفطية التي تعتمد على أسعار البترول ولم تتخذ ما يكفي من اجراءات اعادة الهيكلة وتنويع مصادر الدخل ، والترشيد في الانفاق وتقليص ” الإدمان ” على النفط. .
ويخرج اصحاب هذه النظرية الى القناعة بأنه يصعب الدفاع عن إدامة الربط بين الدولار الامريكي الذي تتزايد قوته وبين عملات خليجية تتعرض لمزيد من الضغط. ثم أن الربط يتم في النهاية بين اقتصاد أمريكي يوشك على الخروج من تداعيات أزمة 2008، وينتظر التوقيت الدقيق لرفع جديد في أسعار الفائدة – إن لم يكن هذا الشهر ففي أي وقت قريب.، وبين اقتصاديات خليجية تربط عملاتها بالدولار وتضطر – بدرجات متفاوتة – لمجاراة الفيدرالي الأمريكي برفع الفائدة ، على نحو يكلفها بُطئاً في النمو وصعوبات في توفير التمويل، تتعارض مع اولوياتها الملّحة.
تجارب روسيا وفنزويلا
ويستحضر دعاة فك ارتباط العملات الخليجية مع الدولار، أن هذا الاجراء الذي ترفضه البنوك المركزية الخليجية ، كان له ما يماثله في روسيا وفنزويلا كدول نفطية تعتمد بدرجة مؤثرة على مداخيل وأسعار ومداخيل البترول. في تلك الدول جرى اللجوء لحل تخفيض العملة مقابل الدولار، وذلك من أجل أن تبقي لبرميل نفطها قدرته على توليد نفس الكمية من العملة المحلية للوفاء بالتزامات الانفاق المحلي.
صندوق النقد الدولي يتحدث عن “تغيير ما” مفترض
أيضاً صندوق النقد الدولي كانت له رؤيته في موضوع المأزق الذي تجد نفسها فيه ، دول الخليج التي تربط عملاتها بالدولار. الصندوق الدولي يعنون رؤيته ب ” ضرورة عمل شئ ما ” لتخفيض عجوزات الدول النفطية ، هذا إذا ارادت الاستمرار في ربط عملاتها بالدولار. فقد وصل حجم الاقتراض الخارجي لهذه الدول خلال الأشهر الخمسة الماضية حوالي 18 بليون دولار، مع اشارات الى أن التوسع الاضطراري في البحث عن تمويل سيشمل ايضا الشركات العقارية والبتروكيماوية المرتبطة بمشاريع توسع لا تستطيع العاءها او تأجيلها . وبالتالي – كما يرى الصندوق – فإن الدول النفطية مضطرة أن تعيد هيكلة اقتصادها وهو ما دخلت به كل دول مجلس التعاون حسب ظروف كل منها
بنك أوف امريكا”
“بنك أوف امريكا” على سبيل المثال كانت له رؤيته الاستشارية التي تقول ان الازمة الراهنة تدع دول الخليج أمام أمرين، إما فك ربط النفط بالدولار أو فك ربط عملاتهم بالدولار، ويبدو أن الخيار الثاني أسهل اقتصادياً وسياسياً لكنه غير مضمون النتائج، كما يقول البنك
تجارة النبوءات السود
لكن بالإضافة لكل الذين يدعون لفك ارتباط العملات ويتناولون الموضوع من زوايا فنية محضة ، فإن هناك صناديق تحوط دولية، حددتها بلومبيرغ بصندوقي نايت هيد وبوينت ستيت كابيتال ، تحترف المضاربة على العملات الخليجية مع التوسع في تشييع الانطباعات و”النبوءات السوداء” عن حتمية تخفيض العملات وتحديدا الريال السعودي . من هؤلاء الذين تصفهم “ماركت ووتش” بانهم “اسماك القرش التي تشم رائحة الدم في الماء “، زاخاري شرايبر مدير عام صندوق بوينت ستيت الذي سبق وراهن عام 2014 على تخفيض النفط واستثمر في ذلك محققا ارباحا بلغت بليون دولار .
ففي الرابع من شهر مايو الماضي تحدث شرايبر في مؤتمر ايراسون للاستثمار بنيويورك ، متوسعا في الترويج لنظرية تقول ان تخفيض الريال امر حتمي وأن وكالة النقد السعودي ، ساما ، لن تستطيع أن تدافع طويلا عن سعر تبادل 3.75 ريال مقابل الدولار كما فعلت منذ 1986. ويبني شرايبر “نبوءته السوداء” التي روج لها كثيرا ، على أن الحفاظ على ربط الريال بالدولار يحتاج الى سعر نفطي بحدود 90 دولار للبرميل.، وهي نظرية رفضها وزيرا النفط السعودي ، السابق والحالي ، مؤكدين امكانية التعايش وتحقيق معدل نمو معقول في ظل 50-60 دولارا للبرميل
حساب التكاليف للخيارات الصعبة
خيار تخفيض العملات المحلية في دول مجلس التعاون، لم يوضع محل نقاش جدي على مستوى البنوك المركزية الخليجية، منفردة ومشتركة، حسب تأكيدات تكررت على السنة مسؤولين في موقع القرار .
مؤسسة النقد السعودية (ساما) على سبيل المثال أصدرت ورقة عمل خاصة بهذا الموضوع أوضحت فيه مبررات الاستمرار بسياسة الربط بالدولار الأمريكي مقابل مخاطر المجازفة وبغير ما رؤية وضمانات كافية تقلل من كلفة هذه المجازفة.
لكن تأكيدات وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لم تقلل من اجتهادات المحللين او تسريبات بعض صناديق المضاربة الدولية ، بحيث تتناوب الانباء والتوقعات عن نية الدول فك ربط العملة بالدولار لتعود وتختفي وسط حالة من عدم اليقين تجاه موضوع له تكاليفه الاقتصادية والسياسية في كل الاحوال